هل تعامل النظام مع الثورة بغباء?

تمام هنيدي

 طرَحت الثورةُ السوريةُ منذُ صرخةِ السوقِ القديمِ في دمشق جملةَ شعاراتٍ لم تكن الذاكرةُ السوريةُ تحتفظ بأيّ صورةٍ لها. مفرداتٌ جديدة تماماً حتّى على التاريخ السوريّ (والشرقيّ كاملاً ربّما) كالدّولةِ والفردِ والمجتمعِ والديموقراطيةِ والحريةِ الفكرية والممارساتية. كلّ هذا من خلالِ إطلاقِ صرخاتٍ بسيطةً فتحت الباب على مصراعيه أمام هذه الطروحات الجديدة: “بعد اليوم مافي خوف – الشعب السوري ما بينذلّ- الشعب السوري مو جوعان- سوريّا بدها حرية”….

لم يكُن النظامُ السوريُّ غافلاً عن أنّ مثل هذا النوع من الصيحات يشي بأنّ خوفاً ما، بدأ يُكسرُ في نفس السوريّ، ما قد يؤدّي -وأدّى فعلاً- إلى وضعِ مفرداتٍ غاية في الخطورة على طاولة الثورة، كتلك التي أسلفنا. وهوَ ما يضربُ الجوهرَ والأساسَ العصبيّ والعصاباتيّ الذي بُني عليهِ نظامُ الأسد، ودولته التي بُنيتْ على دمجٍ ذكيّ جداً بينَ ما هوَ متّفقٌ عليهِ من تعريفاتٍ لمفهومِ الدّولة.

فدولةُ الأسد – أباً وابناً- استندَت إلى دمجِ نظرياتِ ما قبلَ العقد الاجتماعيّ، كدمجِ النظريةِ الإلهية في جلّ مراحِلِها حيثُ كانَ من شعاراتها مثلاً خلال العقدِ المنصرم: “سوريا الله حاميها”، وأنّ اللهَ اختارَ لسوريا حكّامها ليحفظوها من كلّ سوءٍ، وكانَت أجهزةُ الدولةِ تصرُّ على إدخال مثل هذه الهرطقات في الوعي الجمعيّ للمواطن “الذي هوَ في نظرهم رعيّة”، بنظريةِ القوّةِ والتي أدّت في نتائجها (الملموسة حتى خلال الثورة) إلى أن يميلَ أفرادُ المجتمعِ السوريّ إلى الأمن والاستقرارْ، رابطينَ بذلكَ هاتينِ الخاصّيتين بوجودِ السلطةِ والدولةِ القائمة التي ضربت بيدٍ من حديدٍ في أكثر من مناسبة ومحاولةِ انتفاضة تحديداً خلالَ سنواتِ حكمِ الأسد الابن، معتمدةً على القولِ العربيّ الشائع عن عنترة: أضربُ الضعيفَ صفعةً يرتعدُ لها قلبُ القويّ.

هاتانِ النظريتانِ أسستا لنظامِ الأسد، بالتالي حينَ طَرحت الثورةُ شعاراتٍ كالدولة والمواطنة والمجتمع، لم يكن مفكّرو النظامِ غافلينَ عن مؤدّاها الحقيقيّ حتّى وإن كانَ بعيدَ المدى، فما كانَ منهم إلا أن ذهبوا ومنذُ اللحظةِ الأولى للثورة باتّجاهِ تقديمِ الحلّ العنفيّ ولا شيء سواه، من مبدأينِ اثنين: الأول أنّ التجربة المصرية والتونسية كانت تُعتبرُ أمثولة لهم، من حيث أنّ التعاملَ اللينَ مع الثوارِ أدّى لسقوطِ النظامين، وهذا الخيارُ كانَ في مطلعِ الثورةِ السورية.

 والثاني وهوَ الأهم: أنّ التعاملَ بشدّةٍ وبقبضةٍ حديدية حتّى حينَ لا تكونُ لازمةً أو ضرورية، من شأنِهِ أن يردّ المجتمعَ المنتفض إلى ردود الأفعال الأولى، أي الاهليّة، أي ما قبلَ الدولة (أي وبمعنىً آخر إبعاده تماماً عمّا كانَ يُنادي بهِ من شعارات)، وإرجاعهِ إلى حيثُ كانَ منذُ قرونْ، حيثُ الثّأر والانتقامْ والعينِ بالعين، سيّما إذا أخذنا بعينِ الاعتبار أنّ مثل هذه الشعاراتْ هيَ نمطُ حياةٍ معتادٍ لديهْ، وهوَ ما يجعلُ استخدامَ العنفِ أكثر مشروعيةً أمامَ مجتمعٍ دوليّ جاهزٍ للتواطؤ في كلّ لحظة.

 لم يكن بإمكانِ المعارضةِ أن تراهنَ على مجتمعِ الثورةِ من باب أنّكَ لا تستطيعُ أن تُطالبَ أحداً بالصمودِ في وجهِ واحدةٍ من أعتى آلاتِ القتلِ وأكثرها وحشية. بينما كانَ بإمكانِ النظامِ السوريّ أن يخوضَ رهاناً على أنّ هذا الشعبَ لن يصمد لا في مفرداتِ ثورتِه المدنية الديموقراطية، ولا في ثورتِهِ كلّها أصلاً.

من هنا أظنّ أنّ تعاطي النّظام السوريّ مع الثورةِ لم يكن غبياً مطلقاً بل كانَ حادّ الذكاء، لكنّ صمودَ السوريينَ حالَ بينهُ وبينَ إرادتِهِ في إنهاءِ الثورة، لذلك ربّما، قرر إنهاءَ السوريينْ!

This entry was posted in من أوراق الصحف and tagged , , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Leave a comment