ركاب الثورة وقائدوها

كرم أبو ربيع – حمص المحاصرة

معارضٌ أعمى البصر, يتلمّس النور بأطراف أصابعه ولا يرى إلّا من خلال أكفّ أجنبية ممدودة على سبيل المصافحة, يهيم شوقاً لمصافحتها ويطير فرحاً بلمسها ويترنم بلغة أصحابها ويسْكر في هوى وعودهم العُرقوبية الكاذبة. يسرق بضع دقائق من ساعة الزمن ليحظى بجلسة خاصّة, ليخرج صادحاً بعدها بتصريحات تسبق الحدث فاتحاً باب العجائب ليقنع الجميع بأنه مدعوم وبأنه صاحب المعجزات, وبأنه هو الرقم الصعب وهو الشخص المطلوب, أو هذا ما يُخيّل إليه!!

أهملَ الشعبَ و لم يلتفت إليه, ولم ينتبه إلى كلّ تلك الأذرع الممدودة, ذات السبابة المشدودة, التي أنارت بصيرة الخالدين على مرّ السنين, رمى كلّ ما سعى إليه هذا الشعب خلال ثورته في كتاب تاريخٍ مغبرّ, لن يقرأه أحدٌ بزعمه, لأنّ حدسه ينبئه بأنه هو الفائز وهو من سيكتب التاريخ مستقبلاً وفق هواه.

لمثل هذا يقول الشعب: خسئت وانتكست, وبُعداً لك ولأمثالك, افرح ساعتك هذه لأنها لن تدوم, فأنت لا تعدو كونك تاجر, وبضاعتُك هي شخصُك, وإن خسرتَ فستضيع منك نفسُك, ولن يشتريك مستقبلاً أحد, والأجنبي لمصلحته فقط, يستعملُك!! ولن يلبث بعد أن ينتهي منك, أن يرميك.

*   *   *

يمشي مترنّحاً يتهادى ذات اليمين وذات الشمال, من ثِقل الحمل الذي عليه, يحمل همّاً كبيراً, همّ نفسه وطفله وزوجته وباقي عائلته, يحمل همّ عائلاتِ الآخرين الذين يرابطون معه في ذات المدينة, طال عليه الخناق واشتدّ الحصار كطاعون مرير لم يُبقِ و لم يَذر, يخشى أن تَغمضَ عينُهُ فتنكشفَ عورةُ جبهةِ قتاله, فينتهكها عدوّه, فيصبح على ما جَنَت عينُه نادماً. دائمُ الترقّب, يسهر على حماية العِرض والأرض, دائم التفكير في ما سيؤول إليه الحال, إنّه على يقينٍ بأنّ النصر لن يكون إلّا حليفه في النهاية بإذن الله, ولكن ما بين لحظته الآن ولحظة النصر ربما تكون حياة طويلة, فهو يعمل على ألا يعترض طريقه ما يعكّر صفو النهاية السعيدة.

تنظر إليه فيهديك ابتسامة ذابلة خجولة, ترى الشيب وقد طرّز رأسه ونثر بعض خيوطه البيضاء في لحيته مدلّلاً على كبر حجم الهمّ الذي يُثقل كاهله, وإذا سألته ما الأوضاع؟ تُجيبك تنهيدةٌ طويلة تخلط خبراً جيداً و آخر دون ذلك, ولا يفتأ يحمد الله على ما نزل بنا من بلاء, بل ويدعوك للصبر أكثر وأكثر فما بعد العسر إلّا اليسر.

بمثل هذا تحارب حمص المحاصرة وبمثل هذا ستنتصر إن شاء الله قريباً!

*   *   *

تجتمعُ جُمَلُ المتناقضات في شخص واحد أوفي بيت واحد في هذه المساحة الضيقة جداً من هذا العالم العجيب, لم يكن من المعقول أو من المتوقع أن تجتمع!

معظم الأشياء التي كُنّا قد أَلِفناها واعتبرناها أموراً عاديةً في حياتنا, فقدناها نحن هنا الآن.

تضطّر إلى أن تُشارك الآخرين في أكثر الأشياء خصوصيةً بالنسبة إليك, لأنه أصبح أغلى من أن تفوز به بمفردك وأندر من أن يوجد حتى, يتشارك الناس الآن أمبيرات الكهرباء ويتقاسمون ساعات الماء على الآبار, ويتناوبون بالخراطيم على مضخات المياه, يتشاركون وجبة الطعام الوحيدة في اليوم والمتناهية في البساطة, ومن استقلّ بزاده فإنه يضطر إلى استعارة ببّور الكاز من الآخرين, إنّها لحياة تكافلٍ كاملة تتفجّرُ منها ينابيعُ صبرٍ ومؤاثرة.

وما زال الخناق يشتد على عنق المدينة المحاصرة  وما ضَعف ثوارُها وما استكانوا, ونحو نصرٍ قريبٍ ما فتئت أفئدتهم ترنوا إليه.

This entry was posted in من أقلام الثوار and tagged , , , , , , . Bookmark the permalink.

Leave a comment